د. ياسر أيوب: الرياضة والإعلام وربنا يرحم داود بركات
قد يدفعك حال الإعلام الرياضى حاليا فى مصر إلى ثلاثة احتمالات .. أن يغريك ما يجرى حاليا لتنزل إلى البحر وتستعرض قدراتك على السخرية من أى أحد وإهانته وتسهم فى إشعال مزيد من النار .. أو تكتفى بالفرجة على ما يحدث صامتا وحزينا وغاضبا وخائفا من نتيجة ذلك كله .. أو تتجاهل الأمر كله فلا تشارك ولا حتى تشاهد وتبتعد تماما وتنشغل بأى شىء آخر .. ولكننى أملك احتمالا رابعا قد يبدو بعيدا أو غريبا بعض الشىء .. وهو الحديث عن داود بركات .. الشاب اللبنانى الذى هاجر إلى مصر وأصبح موظفا فى مصلحة المساحة فى طنطا ثم مدرسا فى مدرسة الأمربكان بمدينة زفتى .. ولأنه كان يهوى الكتابة .. بدأ يكتب وينشر مقالات له هنا وهناك إلى أن أصبح رئيسا لتحرير جريدة المحروسة .. ثم أسس جريدة اسمها الأخبار قبل انتقاله للعمل صحفيا فى جريدة الأهرام التى أصبح خامس رئيس تحرير لها عام 1901 حين اختارته أرملة بشارة تقلا مؤسس الأهرام وطلبت منه المحافظة على بقاء الجريدة ونجاحها
ولست هنا أتحدث عن داود بركات كإنسان درس الفقه الإسلامى والهندسة والفلسفة والأدب والاجتماع وكان شديد الثقافة والالتزام والتهذيب والاحترام .. أو كرئيس تحرير قضى 32 سنة يدير الأهرام ونجح فى أن يجعلها الجريدة الأكبر والأهم والاكثر انتشارا ونفوذا وتأثيرا وتوزيعا وقوة أيضا .. وكان أول من فتح باب الأهرام لكل الوطنيين وأول من دافع عن مصطفى كامل ودافع طويلا عن ارتباط السودان بمصر .. وأسس أول باب للكتب والمؤلفات الجديدة والتعليق عليها وأول وأكثر من كتب عن حقوق غائبة للمرأة المصرية .. وكان أول من قدم تعريفا ووصفا محددا ولائقا لكل صحفى فى مصر وأول من تبنى فكرة تأسيس نقابة للصحفيين فى مصر .. إنما أتحدث عن داود بركات الذى كان أول من أدرك احتياج الرياضة للإعلام .. فقد أدرك الرجل بداية من عام 1902 نضج الطبقة الاجتماعية من خريجى المدارس الحديثة واهتمامها بالرياضة وبدء انشائهم للأندية الرياضية .. وأن الرياضة فى طريقها لأن تصبح شيئا هاما فى مصر .. ولا يليق بصحافة مصر أن تبقى بعيدة عما يجرى .. إنما لابد للصحافة ان تساعد الرياضة لتصل إلى كل الناس وأن تشجع الناس على اللعب والممارسة وتعريفهم بأخلاق الرياضة وتهذيبها للنفس والسلوك .. هكذا كان يفكر الرجل عام 1902 وحتى عام 1922 إلى أن قرر تأسيس باب يومى للرياضة فى جريدة الأهرام كان هو الأول من نوعه فى صحافة مصر .. وطيلة تلك الفترة التى سبقت خروج الباب الرياضى اليومى إلى النور كان داود بركات بين الحين والآخر ينشر مقالات رياضية فى الأهرام بل نشر بعضها فى الصفحة الأولى للجريدة اقتناعا بقيمة وضرورة وأهمية الإعلام الرياضى
وتقتضى الأمانة التاريخية الإشارة إلى أن هذا الباب الرياضى اليومى الجديد فى جريدة الأهرام لم يكن الالتفاتة الأولى من صحافة مصر للرياضة أو كرة القدم .. ففى عام 1895 أصدر نورى إميل ناخارتى فى الإسكندرية صحيفة السباق كأول صحيفة رياضية فى مصر .. وبعدها بعام واحد كانت مجلة الرياضة .. ثم ظهرت صحيفة الرياضة عام 1905 وصحيفة الألعاب الرياضية عام 1907 .. وسبق أن أصدر إبراهيم علام مجلة الرياضة البدنية عام 1920 وكانت تهتم بكرة القدم .. وفى عام 1921 خصصت مجلة الزمان ثلاث صفحات للرياضة والكشافة .. وبعد عام واحد صدرت مجلة المضمار وتركز اهتمامها فى أخبار كرة القدم ونتائج سباقات الخيل .. وبعد يطولة الكأس السلطانية صدرت مجلة أسبوعية فى قطع صغير لنشر أخبار البطولة ومواعيد ونتائج مبارياتها .. وتوالت بعد ذلك مجلات رياضية مثل مجلة السباق ومجلة الألعاب ومجلة الرياضة ومجلة سبور فى الإسكندرية ومجلة ماتش فى القاهرة .. لكن الجديد الذى جاء به داود بركات ودافع عنه وتحمس له كان دور الصحافة فى غرس الروح الرياضية داخل مجتمع لم يكن قد عرف الرياضة بعد أو اعترف بها .. وحين كان تلاميذ المدارس والصغار فى الشوارع والحوارى يمارسون الرياضة ويسيئون حبهم لها بتحويلها لوسيلة لإزعاج الآخرين .. كان داود بركات ينتقدهم ويطلب منعهم من ذلك لأنه أراد دائما الرياضة وسيلة تساعدعلى التهذيب والارتقاء الأخلاقى الجماعى
ومضت السنون وتغيرت كل الوجوه والملامح والقواعد والألعاب وتأسست اتحادات وأندية وتوالت وكثرت مسابقات وبطولات .. لكن لم يعد لدينا داود بركات ورؤيته لإعلام الرياضة .. فالإعلام الرياضى الذى زادت قوته فى مصر وزادت مساحاته وشراسته .. لم تعد من أولوياته تهذيب أى سلوك أو التصدى لأى تجاوز .. إنما أصبح هذا الإعلام الرياضى فى مصر هو الذى يقود الخروج على كل القواعد الرياضية والأخلاقية والانسانية أيضا