د. ياسر أيوب يكتب: كيف أسست الألعاب حضارة وثقافة الإنسان

هل خطر ببالك يوما أن تتوقف وتتأمل كلمة لعبة لتكتشف أنها ليست فقط كلمة تقال بقصد الرياضة ونشاطاتها ومسابقاتها وتمارينها ومبارياتها .. إنما نستخدمها بمعان ومقاصد كثيرة جدا فى حياتنا .. فنحن نصف أحيانا أى منافسة أوخطوة وحركة غير متوقعة بأنها لعبة .. ونصفق للممثلة أو الممثل ونقول أنه أجاد لعب دوره .. والذى يخدعنا أو يكذب علينا نقول أنه تلاعب بنا .. ونقول عمن يعزف بأنه يلعب موسيقى .. وحين نريد أن نمدح أحدا لذكائه أو قدرته نصفه بأنه لعيب .. وهذا ليس فى اللغة العربية فقط إنما يتكرر الأمر فى كل مجتمع وفى كل لغة أيضا .. وكان الذى اكتشف ذلك بعد طول دراسة وبحث هو أستاذ التاريخ واللغات الهولندى يوهان هانشينخاه .. وفى كتابه بعنوان أومو لودنس الذى أصدره عام 1938 .. شرح الدكتور يوهان كيف اكتسبت كلمة لعبة كل هذه المعانى والدلالات وشرح أسباب ذلك أيضا .. ورغم أنه كتاب قديم صدر منذ أكثر من 80 عاما .. إلا أن أومو لودنس بقى حتى الآن هو المرجع الأول لكل من يريد البحث والمعرفة فى تاريخ الرياضة وكيف ولماذا بدأ الإنسان يلعب .. وهو من الكتب القليلة جدا فى العالم الذى صدرت بشأنه كتب كثيرة اعتمدت عليه وحاولت تفسيره وشرح أهم ما قاله الدكتور يوهان .. وحتى اليوم .. لا تزال تتوالى هذه الكتب ولا يزال كتاب أومو لودنس يحظى بالاهتمام والتقدير والاحترام
وفى هذا الكتاب .. أكد الدكتور يوهان أن اللعب كان النشاط الأول للإنسان بعد الصيد والبحث عن الطعام والهروب من الحيوانات المفترسة والأعداء .. فالإنسان القديم عرف اللعب قبل الحضارة والثقافة وبدأ يلعب قبل أن يخترع الكتابة أو يتعلم القراءة .. بل يؤكد يوهان أيضا بمنتهى الوضوح والثقة أن اللعب كان القاعدة الأولى التى استند إليها الانسان القديم لاستكشاف معان وقيم كثيرة مثل العدل والوقت والعلاج والترفيه والمنافسة والانتصار .. وأكد الدكتور يوهان أن الإنسان القديم تعلم ألعابه الأولى من الحيوانات المحيطة به .. ورغم أن هذا الانسان لم يكن يلعب فى البداية بجدية وظل كذلك لفترات طويلة إلا أنه رغم ذلك استخدم اللعب لابتكار حياة جديدة حافلة بالفنون والنشاطات .. وقد عرف هذا الانسان القديم الخوف والحزن والألم لكنه لم يضحك إلا حين بدأ يلعب .. ولم يفرح إلا بعدما بدأ يفوز فى اللعب .. ولم يعرف فى حياته البدائية أى نظام إلا حين بدأ يلعب .. ولم يحتفل مطلقا قبل اختراع اللعب وممارسته .. ولذلك سبق اللعب كلا من الرقص والغناء وكل أشكال ومراسم الاحتفالات
وفى فصول كتابه الكثيرة بدأ الدكتور يوهان يشرح العلاقة بين اللعب وأشياء ومجالات كثيرة جدا .. وشرح فى الفصل الثانى كيف تأثرت لغات العالم بالألعاب التى سبقت أى نشاط انسانى آخر .. وقدم يوهان نماذج للمعانى المختلفة لكلمة لعب أو لعبة فى مختلف اللغات سواء كانت لغات لاتينية أو سامية أو شرقية .. وفى الفصل الثالث تحدث يوهان عن بداية الحضارة بمختلف أشكالها ومجالاتها وكيف كان اللعب وتنظيمه وأهدافه ونتائجه هو بداية كل ذلك سواء بشكل مباشر أو غير مباشر .. وفى الفصل الرابع تحدث يوهان عن اللعب والقانون الأول على الأرض .. فالإنسان القديم لم يكن يحتاج لقوانين حين كان كل نشاطه هو إما الجرى للصيد أو لحماية نفسه وأسرته أو الزراعة من أجل الطعام .. وحين بدأ هذا الانسان يلعب .. احتاج لقوانين أولى بدائية تحدد من الفائز ومن المهزوم .. ومن الذى فاز دون غش وكيف يمكن معاقبة الذى يغش ويخدع الآخرين .. وتوالت بعد ذلك فصول الكتاب .. اللعب والحرب .. واللعب والمعرفة والثقافة والغناء والشعر والفلسفة أيضا
ولم يكن كتاب أومو لودنس هو الكتاب الوحيد للدكتور والأستاذ الهولندى يوهان .. فقد قام بتأليف كتب كثيرة أهمها كتاب خريف العصور الوسطى وكتاب فى ظلال الغد وكتاب رجال وأفكار فى العصور الوسطى .. لكن بقى كتاب أومو لودنس هو الأطول عمرا من بقية كتب يوهان والأكثر قيمة واحتراما أيضا .. فلم يسبقه أى أحد لمثل هذه الدراسة الحقيقية والكاملة والرائعة عن تاريخ اللعب ولماذا وكيف بدأ الإنسان القديم يلعب وما الذى استفاده من هذا اللعب
وإلى جانب الكتب والدراسات .. كان يوهان رافضا للحكم النازى وسيطرة هتلر على هولندا .. وظل يعارض ذلك إلى أن تم اعتقاله لعدة أشهر عام 1942 وتم إطلاق سراحه مع منعه من العودة إلى بيته ومدينته .. فعاش ضيفا فى بيت أحد زملائه وظل منفيا ومطاردا حتى مات فى الأول من فبراير عام 1945 قبل أسابيع قليلة من سقوط ونهاية الحكم النازى